في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء، قررت كرة القدم أن تكتب فصلا جديدا من الجنون، بطله أضعف منتخبات الأرض، سان مارينو.
منتخب يحتل المرتبة 210 والأخيرة عالميا، بلا نجوم، بلا محترفين، بلا نقاط في تصفيات كأس العالم، ومع ذلك يجد نفسه اليوم على أعتاب ملحق المونديال، في سيناريو يشبه الخيال أكثر من الواقع.
ضوء في النفق
لبدء الحكاية، علينا العودة إلى 5 سبتمبر/ أيلول 2024، ففي ذلك اليوم الهادئ، دوى اسم “نيكو سينسولي” في أرجاء أوروبا، بعدما أحرز هدف الفوز لسان مارينو على ليشتنشتاين، ليمنح بلاده أول انتصار منذ 20 عامًا كاملة.
لم يكن مجرد هدف، كان بداية صرخة عبثية في وجه التاريخ، فبعدها بشهرين فقط، في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عاد منتخب سان مارينو ليصنع الحدث من جديد.
وفاز خارج أرضه لأول مرة في تاريخه، بثلاثية على ليشتنشتاين في فادوز، ليضمن صدارة مجموعته في دوري الأمم الأوروبية، ويصعد إلى الدرجة الثالثة للمرة الأولى على الإطلاق.
انتصاران فقط، لكنهما فتحا الباب لأغرب سيناريو ممكن، منتخب بلا أي فوز في تصفيات المونديال يجد نفسه مرشحًا للعب في ملحق كأس العالم.
نظام معقد يفتح باب المعجزة
القصة لم تولد من الفراغ، بل من رحم نظام جديد للتصفيات الأوروبية المؤهلة لكأس العالم”.
في هذا النظام، تتأهل 12 دولة مباشرة إلى المونديال بصفتها متصدرة مجموعاتها، بينما يخوض 12 وصيفا الملحق الأوروبي، لتحديد المقاعد المتبقية.
وتمنح 4 مقاعد إضافية لأفضل المنتخبات الفائزة بمجموعاتها في دوري الأمم الأوروبية، شريطة ألا يكون أحد هذه الفريق قد تأهلت مباشرة أو كوصيفة.
هذا الشرط البسيط فتح الباب أمام سان مارينو، التي تصدّرت مجموعتها في دوري الأمم، لتصبح مؤهلة – نظريًا – للانضمام إلى قائمة المنتخبات الـ4 المرشحة للملحق، إذا سارت الحسابات في اتجاهها الصحيح.
رومانيا.. مفتاح غير متوقع
الطرف الآخر في القصة هو منتخب رومانيا، الذي يلعب في نفس المجموعة مع سان مارينو.
وتحتل رومانيا المركز الثالث حاليًا برصيد 10 نقاط، خلف النمسا (15 نقطة) والبوسنة والهرسك (13 نقطة).
ومن المقرر أن تواجه في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، البوسنة في مباراة مصيرية، قبل أن تستضيف سان مارينو يوم 18 من الشهر ذاته في بوخارست.
السيناريو الذي يُبقي حلم سان مارينو حيا، هو أن تتجاوز رومانيا البوسنة وتنتزع المركز الثاني.
لماذا؟ لأن رومانيا إذا تأهلت مباشرةً عبر التصفيات، ستخرج نفسها من حسابات دوري الأمم، ما يفتح مقعدًا قد يصل إلى سان مارينو.
المفارقة الجنونية.. الخسارة طريق الأمل
لكن العجيب أن الطريق إلى ذلك يمر من خسارة سان مارينو نفسها، فمن أجل أن تتفوق رومانيا على البوسنة، تحتاج إلى تحسين فارق الأهداف.
وتمتلك البوسنة +8، بينما تقبض رومانيا في جعبتها على +5 فقط.
أي أن فوزا كبيرًا على سان مارينو قد يمنح الرومان الأفضلية، وبالتالي يُقرب المنتخب الضعيف من حلمه عبر مفارقة لا تُصدق، كلما خسر أكثر، اقترب من الملحق أكثر!
هذه المفارقة تضع القصة في مرتبة الأسطورة الرياضية، حيث تتحول الهزيمة إلى أداةٍ لصناعة النجاح.
إنه المنطق المقلوب الذي لا يحدث إلا في كرة القدم الحديثة، حيث تتداخل اللوائح والحسابات مع الصدف ليُولد منها مشهد يصعب تكراره.
أرقام منعدمة
إحصائيات سان مارينو في التصفيات في غاية الضعف، لا نقاط من 7 مباريات، هدف واحد فقط مقابل 32 هدفًا في مرمى المنتخب، فارق أهداف: -31، آخر مباراة: خسارة مهينة 0-10 أمام النمسا.
ورغم كل ذلك، فإن انتصاريه في دوري الأمم قد يكونان مفتاحا لمعجزة عالمية.
بلد لا يتجاوز عدد سكانه 34 ألف نسمة، فريق يضم لاعبين هواة يعمل بعضهم كمدرسين وموظفين، يقف الآن على بعد خطوة حسابية من حلم المونديال.
التحذير الذي يفرضه الواقع
بالطبع، يجب التذكير أن فيفا يحظر تمامًا أي شكل من أشكال التلاعب أو الخسارة المتعمدة، ويعتبرها جريمة كروية تستوجب العقوبات الصارمة.
لكن هنا تجدر الإشارة إلى أن سان مارينو خسرت بخماسية لهدف أمام ضيفتها رومانيا في ذات التصفيات، ما سيجعل الخسارة القاسية المحتملة أمام ذات الخصم، تبدو واقعية للغاية.
فما يجري هنا ليس تلاعبًا، بل نتيجة عبثية محتملة، صنعها نظام التأهل المعقد ونتائج المصادفة، لكنها رغم غرابتها تعيدنا إلى جوهر اللعبة، فلا منطق ثابت، ولا نتيجة مضمونة.
بين السخرية والإلهام
قد يراها البعض نكتة كروية، لكن آخرين ربما يرونها قصة إلهام لشعوب صغيرة تحلم بالمستحيل.
تقف سان مارينو على أعتاب الملحق بعد عقود من الإخفاق، يعني أن في كرة القدم مساحة دائمة للأحلام، حتى وإن بدت مجنونة.
هل يكتب التاريخ فصلا جديدا؟
بين 15 و18 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، سيتحدد مصير واحدة من أغرب القصص في تاريخ اللعبة.
وقد تسقط الحسابات كلها في الماء، وقد يتحول الحلم إلى نكتة جديدة تضاف إلى سجل سان مارينو الطويل من الخسائر.
لكن هناك احتمالا صغيرا، ضئيلا، لا يمكن تجاهله، بأن يتحقق المستحيل.
في النهاية، هذه هي كرة القدم، اللعبة التي لا تعرف المنطق، ولا تخضع للتوقعات، وتمنح حتى أضعف المنتخبات لحظة، ليحلم بأن يصبح جزءا من التاريخ.