إذا كان من الطبيعي أن يسجل إرلينج هالاند ثنائية لمانشستر سيتي أمام بورنموث يوم الأحد، فإن المفاجأة الحقيقية جاءت من اللاعب الذي صنع الهدفين.
رايان شرقي، العائد للملاعب بعد غياب دام 10 أسابيع بسبب إصابة في الفخذ، قدّم عرضًا لافتًا في أول مشاركة له في الدوري الإنجليزي الممتاز منذ أغسطس / آب.
وحتى قبل إصابته، كانت هناك تساؤلات كثيرة حول مدى توافقه مع فلسفة بيب جوارديولا الصارمة.
صنع شرقي لنفسه اسمًا مبكرًا منذ كان في السادسة عشرة من عمره، حين أصبح أصغر لاعب يسجل هدفًا بقميص ليون في يناير / كانون الثاني 2020. ومنذ ذلك الحين، رافقته شهرة ضخمة، لكن أيضًا سمعة لاعب يصعب التعامل معه.
فقد لعب تحت قيادة ستة مدربين في ليون، ودخل في خلافات مع معظمهم تقريبًا.
لذلك، بدا انضمامه إلى مانشستر سيتي خطوة محفوفة بالمخاطر، خاصة تحت إدارة جوارديولا الذي لا يطيق التعامل مع الشخصيات المتمرّدة، كما ظهر سابقًا في علاقاته المتوترة مع صامويل إيتو، زلاتان إبراهيموفيتش، سيرجيو أجويرو، وجواو كانسيلو.
لكن ما كان يُنظر إليه كمغامرة، بدأ يتحول إلى نجاح مبهر، بعدما قدّم شرقي أداءً يؤكد أنه بات ناضجًا كرويًا، وجاهزًا ليكون أحد مفاتيح مانشستر سيتي الجديدة.
آراء سلبية
رودي جارسيا، المدرب الذي منح رايان شرقي فرصة الظهور الأولى مع ليون، كان أول من دق ناقوس الخطر مبكرًا، محذرًا من “خطر أن يعتقد أنه بالفعل أحد أفضل اللاعبين على هذا الكوكب”.
أما بيتر بوس، فقد استبعده مرارًا من تشكيلته الأساسية، في حين اعترف لوران بلان بأنه خاض “مناقشات ساخنة” مع صانع الألعاب الشاب بسبب نزعاته الفردية في الملعب.
ولم يكن فابيو جروسو أكثر لطفًا، إذ قلّل من قيمته قائلًا إنه “لاعب مثل أي لاعب آخر”، قبل أن يضيف لاحقًا: “يمتلك قدرات فنية هائلة، لكنه بحاجة إلى تطوير الجوانب الأخرى في لعبه”.
ثم جاء بيير ساجي ليعمّق الأزمة، بعدما استبعد شرقي من فريقه لعدة مباريات نتيجة خلاف حول تجديد العقد.
الصدام لم يقتصر على المدربين فحسب، فحتى مالك نادي ليون الأمريكي، جون تيكستور، هاجم لاعبه علنًا في رسائل واتساب مسرّبة، واصفًا الموهبة الفرنسية بأنها “أحمق صغير”.
ورغم كل هذه الصدامات، يبدو أن شرقي بدأ أخيرًا في كتابة فصل جديد مع مانشستر سيتي، حيث وجد بيئة قد تُخرج أفضل ما لديه بدلًا من معاقبته على اختلافه.
نضج.. ورهان ذكي
في موسمه الأخير مع ليون، بدا أن رايان شرقي قد نضج أخيرًا.
أعاد بيير ساجي إدراجه في التشكيلة بعد توقيعه عقدًا جديدًا، ليضمن للنادي الذي يعاني من ضائقة مالية حق الاستفادة من رسوم انتقاله مستقبلًا. وعندما أقيل ساجي في يناير / كانون الثاني الماضي، كان شرقي أول من أشاد به قائلاً: “إنه يترك إرثًا استثنائيًا”، بعدما قاد الفريق للبقاء في الدوري الموسم السابق.
لاحقًا، نجح شرقي في كسب ثقة المدرب الجديد باولو فونسيكا، بعدما أظهر دعمه له عقب تعرضه للإيقاف لمدة تسعة أشهر بسبب مواجهة مع أحد الحكام. لكن الأهم من ذلك، أن اللاعب الشاب أثبت جدارته داخل الملعب، بتقديم أداء متّزن ومؤثر على مدار الموسم، أنهاه برصيد 12 هدفًا و20 تمريرة حاسمة.
هذه الأرقام جاءت لتؤكد ما قاله عنه رئيس ليون السابق جان ميشيل أولاس ذات يوم: “يمكن مقارنة شرقي بميسي من حيث جودته الفنية”.
بيب جوارديولا، الذي يعرف جيدًا كيف يستخرج أفضل ما لدى المواهب الفريدة مثل ميسي، قرر أن يمنح شرقي فرصة جديدة في مانشستر سيتي، وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره في أغسطس / آب الماضي.
ولم يحتج النادي الإنجليزي لدفع أكثر من 34 مليون جنيه إسترليني (نحو 44 مليون دولار)، إذ كان يتبقى عام واحد فقط في عقده مع ليون، ما جعل الصفقة تبدو ذكية من الناحية المالية والفنية في آنٍ واحد.
“لم أر أحدا بهذه البراعة”
تجدر الإشارة إلى أن ليونيل ميسي نفسه، الذي وصفه بعض زملائه في برشلونة بـ”الديكتاتور الصغير”، لم يكن سهل التدريب على الإطلاق.
فقد أرسل “ليو” ذات مرة رسالة نصية إلى بيب جوارديولا بعد إحدى المباريات، معربًا عن استيائه من مطالبته باللعب في دور ثانوي خلف زلاتان إبراهيموفيتش.
لكن كما يُقال، بعض اللاعبين يستحقون أن تُكسر القواعد من أجلهم.
ورغم أن جان ميشيل أولاس ربما بالغ، أو أراد رفع قيمة لاعبه، حين قارن بين شرقي وميسي، إلا أنه لم يكن الوحيد الذي رأى في الشاب الفرنسي موهبة استثنائية.
جايل كليشي، الظهير السابق لمانشستر سيتي، الذي عمل مساعدًا لتييري هنري في منتخب فرنسا تحت 21 عامًا، تحدث بإعجاب كبير عن شرقي.
وقال كليشي في تصريح لموقع GOAL: “من ناحية الجودة الفردية، لم أرَ لاعبًا مثله من قبل، أعلم أن هذه عبارة كبيرة، لكن إذا تمكن من تطوير لعبه بدون كرة إلى مستوى أعلى، فسنكون أمام لاعب قادر على الوصول إلى أرقام كيفن دي بروين، لأنه في المساحات الضيقة والمناطق الحاسمة، يستطيع خلق الخطر، وهذا بالضبط ما يحتاجه مانشستر سيتي”.
العيب الأكبر
بينما استغل رايان شرقي ضغط بورنموث العالي ببراعة يوم الأحد الماضي ليصنع الفارق لصالح مانشستر سيتي، يرى جايل كليشي أن القيمة الحقيقية للموهبة الفرنسية ستظهر عندما يواجه “السيتي” خصومًا أكثر انغلاقًا، يعتمدون على الدفاع طوال 90 دقيقة، وهي عادةً المباريات التي يعاني فيها الفريق.
وقال كليشي موضحًا: “عندما تلعب ضد فريق يدافع بخمسة لاعبين في الخلف، تقل المساحات بشكل كبير، في مثل هذه الحالات، تحتاج إلى أجنحة تملك جودة استثنائية، وأعتقد أن مانشستر سيتي يفتقر قليلًا لهذا الجانب حاليًا، تعرفون، كان هناك رحيم سترلينج، ورياض محرز، وليروي ساني، وكانوا بالنسبة لي كظهير كابوسًا حقيقيًا حين أواجههم، أعتقد أن الفريق فقد هذا النوع من اللاعبين”.
ورغم إشادته بموهبة شرقي، لم يتردد كليشي في تحديد ما يحتاج الشاب إلى تحسينه: “سيكون عليه أن يثبت قدرته على الأداء خارج لحظات امتلاك الكرة، لأننا نعلم جميعًا أن هذه هي مشكلته، كانت كذلك عندما لعب معنا في فرنسا، وحتى الآن في إنجلترا، ما زال هذا الانطباع قائمًا عنه”.
وواصل “إذا تمكن بيب جوارديولا من تطويره في هذا الجانب، فسيصبح لاعبًا مذهلًا لمانشستر سيتي. أعتقد أن هذا النوع من اللاعبين هو ما يبحث عنه بيب، لأن الدوري الإنجليزي الممتاز اليوم لا يقوم فقط على الاستحواذ، بل على كيفية التعامل مع التحولات، وهنا تكمن التحديات الكبرى أمام بيب وشرقي معًا”.
الميول المتمردة
كانت هناك إشارات مبكرة إلى أن أسلوب رايان شرقي في اللعب قد يثير غضب بيب جوارديولا.
فقد بدا المدرب الإسباني منفعلاً عندما فقد لاعبه الجديد الكرة في أولى مبارياته مع مانشستر سيتي ضد الوداد البيضاوي في كأس العالم للأندية.
لكن سرعان ما ظهرت الجوانب المبهرة في طريقة لعب شرقي، خصوصًا في أول ظهور له في الدوري الإنجليزي الممتاز أمام ولفرهامبتون، عندما مرر الكرة بظهر قدمه لزميله نيكو أورايلي، ثم استعادها وسجّل الهدف الرابع بطريقة مبهرة.
رغم ذلك، توقفت انطلاقته بعد إصابته في أول مباراة له على أرضه، والتي انتهت بخسارة سيتي أمام توتنهام 0-2. غاب أكثر من شهرين، قضى معظمها على مقاعد البدلاء، قبل أن يعود بقوة في مواجهة سوانسي ضمن كأس كاراباو، حيث خطف الأنظار بتسديدة ارتطمت بالعارضة، وتمريرات ساحرة لعمر مرموش، قبل أن يسجل الهدف الثالث بنفسه.
وبعد أقل من أربعة أيام فقط على مشاركته الكاملة في جنوب ويلز، أكد شرقي جاهزيته البدنية والفنية بمشاركته أساسيًا أمام بورنموث، حيث صنع الهدفين لإرلينغ هالاند — الأول من ضربة رأس والثاني بتمريرة دقيقة من اللمسة الأولى.
بات واضحًا أن خطة مانشستر سيتي الهجومية تدور الآن حول إيصال الكرة إلى هالاند في المناطق الأخطر، وبعد الفشل في ذلك أمام أستون فيلا، جاء شرقي ليبرهن أنه اللاعب القادر على تنفيذ هذه الفلسفة ببساطة وفعالية، ليفرض نفسه كعنصر لا غنى عنه في منظومة جوارديولا.
‘فريد’
بعد مباراة بورنموث، لم يتردد بيب جوارديولا في الإشادة بـ”شجاعة رايان شرقي في اللعب”، مشيرًا إلى “موهبته الخاصة وتواصله الفريد مع المهاجمين”.
لكن المقابلة التي سبقت المباراة على قناة سكاي سبورتس كشفت بشكل أعمق سبب إعجاب المدرب الإسباني به، والأهم، لماذا يتسامح مع نزوعه الفردي داخل الملعب.
قال جوارديولا موضحًا: “كل المدربين يلعبون الشطرنج، يقولون للاعبين: عليكم أن تفعلوا هذا أو ذاك، أما هو، فهو شخص حر قليلًا، إنه لاعب مميز وصغير جدًا في السن، ونأمل أن يكون منفتحًا لتعلم ما يحتاجه الفريق منه، سواء بالكرة أو بدونها. لكنه بالتأكيد يضيف شيئًا فريدًا في الهجوم”.
بيب، الذي يُعرف بتعامله مع لاعبيه كما يتعامل لاعب الشطرنج مع قطعه، نجح في الماضي في تحويل ما هو غير متوقع إلى مصدر قوة، كما فعل مع جاك جريليش، إذ جعله أكثر انضباطًا دون أن يفقد جرأته، ومع ذلك، يبدو أن جوارديولا يمنح شرقي حرية لا يحصل عليها سوى القليل من لاعبيه، لأنه يثق بقدرته على اتخاذ القرار الصحيح في اللحظة المناسبة.
وأضاف المدرب الإسباني: “في الأندية الكبيرة، تحتاج إلى الموهبة والانضباط معًا، الانضباط يعني أن نتحرك كفريق واحد، لكن في الثلث الأخير من الملعب، لم أقل أبدًا لراحيم سترلينج أو سافينيو أو ليروي ساني أو رياض محرز: عليكم الذهاب إلى اليسار أو اليمين. في تلك المنطقة، أطلب منهم فقط أن يبدعوا بموهبتهم”.
لطالما كان شرقي بارعًا في الإبداع داخل الثلث الأخير، لكنه الآن يمتلك سلاحًا إضافيًا: اللعب إلى جانب إرلينج هالاند، أخطر مهاجم في العالم، وإذا حافظ على هذا التفاهم القوي مع النرويجي، وفهم بعمق ما يريده جوارديولا منه في الأدوار الدفاعية، فقد يثبت أنه ليس مجرد صفقة موفقة، بل أحد أكثر الاكتشافات ذكاءً في مشروع مانشستر سيتي الحديث.



