حين بدأت قرعة مرحلة المجموعات لكأس العالم 2026 داخل مركز جون كينيدي بالعاصمة الأمريكية واشنطن، تشكلت بالتدريج مع الكرات المسحوبة من الأوعية، مفارقة تاريخية أمام أعين العالم.
فمنتخب المغرب وقع مع البرازيل في المجموعة الثالثة، بينما سكنت الجزائر المجموعة العاشرة رفقة النمسا.
لم يقرأ الجمهور العربي هذا المشهد بوصفه مجرد صدفة قرعة، بل باعتباره لمحة من الماضي، عودة للتاريخ من أوسع أبوابه، ونافذة لثأر كروي مؤجل منذ عقود.
فبالنسبة للمغرب والجزائر، الأمر يتجاوز التنافس، إنه ارتباط وجداني وجماعي بلحظات ظلم كروي، سوء حظ، خيانات ملعونة، وذكريات تحولت إلى جروح لا تُنسى.
واليوم، للمرة الأولى، تمتلك هاتان القوتان العربيتان الزخم الحقيقي والقدرة الفنية التي تجعلهما يستطيعان الرد بقوة داخل المستطيل الأخضر.
جرح 1998
لا تزال ليلة 29 يونيو/ حزيران 1998 محفورة في الذاكرة المغربية بحبر لا يمحى.
في تلك النسخة من كأس العالم بفرنسا، ظهر المغرب بأسلوب لعب مذهل، وحقق فوزًا بثلاثية نظيفة على إسكتلندا، كان يفترض أن تفتح به أبواب دور الـ16.
كانت الآمال تتصاعد، والفرحة تجتاح البيوت المغربية، والكل ينتظر تأكيدًا منطقيًا للتأهل.
لكن كرة القدم لا ترحم، بل تُخفي مفاجآتها القاسية تحت لحظات الفرح، فبينما كان أسود الأطلس يحتفلون بانتصارهم التاريخي، كانت النرويج تقلب الطاولة على البرازيل بالفوز 2-1، في سيناريو بدا كأنه قادم من عالم آخر.
هدفان متأخران في الدقائق 83 و89 أطاحا بأحلام المغرب، وأخرجاه من البطولة رغم الأداء الرائع.
هكذا تحول الحلم إلى مأساة، وأصبحت نسخة 1998 تاريخًا حُفر في الذاكرة كأحد أكثر مشاهد الظلم التي تعرض لها منتخب أفريقي.
تبع ذلك سنوات من الغياب عن كأس العالم، وبدت لعنة 1998 وكأنها حجر ثقيل على جدار كرة القدم المغربية.
لكن تلك اللعنة لم تُكسر إلا بعد عقدين كاملين، في 2022.
كان مونديال قطر 2022 نقطة تحول زلزالية في تاريخ المغرب والقارة الأفريقية، فلم يعد الأسود مجرد مشاركين يبحثون عن الفخر، بل باتوا قادة ثورة كروية مكتملة الأركان.
بقيادة وليد الركراكي، فجر المغرب مفاجآت متلاحقة جعلت العالم يعيد النظر في تصورات قديمة عن حدود كرة القدم الأفريقية.
تصدر المغاربة مجموعة ضمت كرواتيا وبلجيكا وكندا، ثم أسقطوا إسبانيا بركلات الترجيح في مواجهة درامية، قبل أن يهزموا البرتغال بهدف يوسف النصيري.
وقتها أصبح المغرب أول منتخب أفريقي وعربي يصل إلى نصف النهائي المونديالي في التاريخ.
فريق عالمي وأرقام مرعبة
منذ مونديال قطر، تطور المغرب بشكل مذهل، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، حقق الفريق رقماً تاريخيًا غير مسبوق عالميا، بـ18 انتصارًا دوليًا متتاليًا، وهو رقم لم تبلغه أي دولة في تاريخ كرة القدم.
وفي تصفيات كأس أمم أفريقيا 2025، اكتسح أسود الأطلس كل شيء أمامهم بـ6 انتصارات متتالية وفارق أهداف بلغ +24، في عرض فني هائل أكد أن ما حدث في قطر لم يكن صدفة ولا طفرة.
تصنيف الفيفا في ديسمبر/ كانون الأول 2025 وضع المغرب في المركز 11 عالميًا، متفوقًا على عدة قوى أوروبية تقليدية.
أرقامهم كانت مرعبة، أكثر من هدفين في المباراة، و0.40 هدف فقط يُستقبل في اللقاء الواحد، هذه صبغة الكبار.
البرازيل 2026.. حساب مفتوح
لقاء المغرب مع البرازيل الآن ليس مجرد مباراة، إنه تكملة لقصة بدأت في 1998 ولم تنته. هذه المرة، المغرب ليس الفريق الذي ينتظر معجزة؛ بل فريق يستطيع صناعة المعجزات.
شبكة ESPN قالت بوضوح إن المجموعة ستحسم في مواجهة المغرب والبرازيل، وإن المغرب قادر على إحداث “الصدمة”.
البرازيل التي لم تفز بكأس العالم منذ 2002 تواجه ضغطًا رهيبًا، بينما يدخل المغرب بلا رهبة، بثقة بُنيت فوق انتصارات لا تُعد ولا تحصى.
وبالنسبة للمغاربة، الفوز ليس مجرد صدارة مجموعة، بل يعني إغلاق جرح ظل مفتوحًا منذ 1998.
عار خيخون وحلم الثأر
إذا كان المغرب يسعى لمداواة ألم الحظ العاثر، فإن الجزائر تبحث عن الثأر من ظلم صريح وصارخ وقع أمام العالم في 25 يونيو/ حزيران 1982 فيما عرف عالميًا بـ “عار خيخون”.
في مباراة ألمانيا الغربية والنمسا، تواطأت الدولتان بوضوح لإقصاء الجزائر رغم فوزها التاريخي على ألمانيا 2-1.
فبعد هدف ألماني مبكر ضد النمسا، اتفق الطرفان على إيقاف اللعب فعليًا لمدة 80 دقيقة كاملة، لا ضغط، لا هجمات، لا منافسة، مجرد خداع وقح.
سُجلت تلك اللحظات كأقذر مباراة في تاريخ كأس العالم، ودُوّن معها عشرات التصريحات العنصرية من مسؤولين ألمان ونمساويين زادت المشهد فضيحة.
بعدها، غابت الجزائر عن المونديال 28 عامًا.
فريق لا يخشى أحدا
بعد سنوات من التخبط، استعادت الجزائر توازنها بقيادة فلاديمير بيتكوفيتش، تأهلوا بجدارة إلى مونديال 2026، وأصبحوا في المجموعة نفسها مع النمسا.
الفارق أن الجزائر اليوم ليست ذلك الفريق الذي تعرض للظلم، بل فريق يريد أن يصنع العدالة بقدميه.
النمسا ليست بقوة ألمانيا 1982، كما أن الجزائر تعلم أن الانتصار عليها يحمل معنى يتجاوز كرة القدم.
فكثير من الجزائريين والعرب قد يعتبرون المباراة فرصة لصفعة رمزية على وجه تاريخ كامل من الظلم الأوروبي تجاه كرة القدم الأفريقية.
وقت الحساب
للمرة الأولى منذ عقود، يجد المغرب والجزائر نفسيهما أمام فرصة للثأر على أكبر مسرح في العالم.
فمواجهة المغرب مع البرازيل، والجزائر مع النمسا، ليستا مجرد لقاءات في دور مجموعات، بل هما قصتان لم تكتمل فصولهما.
صحيح أن البرازيل عملاق عالمي، وأن النمسا منتخب صلب، لكن الصحيح أيضًا أن كرة القدم تعطي الفرص لمن ينتزعها، فهذا ليس مجرد مونديال، إنه لحظة الحساب.



