مثل الكثيرين في الطفولة، حَلِمَ الاسكتلندي جوك ستين، بأن يصبح يومًا ما، لاعب كرة قدم محترف، مشهور، يعرفه الجميع، يلتف حوله الناس أينما ذهب، يحدثونه عن إبداعاته، ولمساته الفنية، وعن البطولات التي جلبها لهم.
كان مجرد التفكير في هذا الأمر يُبهج جوك، ولطالما كان يقول (ستين) لنفسه، إنَّ الأحلام تتحقق بالسعي لا بالأماني فحسب، وعليَّ أن أكون كما أريد وأحب.
لم تكن كرة القدم بالنسبة له مجرَّد لعبة، بل أكثر من ذلك بكثير، فعلى المنضدة الموجودة في غرفته في مواجهة سريره، كان يضع كرة، وكانت أول ما يبحث عنه فور استيقاظه من نومه في كل صباح.
لم يكن أحد في سعادة (ستين)، في عام 1942، حيث لم يعد الطفل طفلًا، ولا الحلم مجرد حلم، ها هو قد وصل إلى مبتغاه في العشرين من عمره، بانضمامه إلى نادي ألبيون روفرز الاسكتلندي، وبدأت رحلته في عالم الكرة، وانتقل إلى ليانيلي تاون، ومنه إلى سيلتك، الذي استمر معه حتى 1956.
ومن شدة شغفه بالكرة، كان يداعبه أصدقائه بين الحين والآخر بالقول له، وهم يتبادلون الضحكات (تحبها يا ستين، كما لو كانت صديقتك التي لا تستطيع العيش بدونها، لا تقلق لن تتركك. ستموت حتمًا بين أحضان محبوبتك يومًا ما).
وجاءت اللحظة التي لم يكن يريدها (ستين) أن تأتي، لحظة اعتزاله اللعب، بعد إصابة في الكاحل ألمت به، ولأنَّه لم يكن بإمكانه أن يبتعد عن الكرة أبدًا، كان قراره باستكمال مشواره داخل الملعب، ليس كلاعب وإنما كمدرب.
ومنذ اليوم الأول لستين في عالم التدريب، وهو يريد أن يترك بصمته في التاريخ الكروي، أن يحقق كل ما لم يحققه، وهو لاعب، يريد أن يكون أسطورة، وأن يقود منتخب بلاده ذات يوم في كأس العالم، وكان على يقين بأنه سيحقق كل أمانيه، لأنه يعرف أن الكرة تُعطي لمن يقدرها ويحترمها.
وفي الفترة ما بين 1960، و1964، بدأ مسيرته بالإشراف على نادي رديف سيلتيك ثم دونفرملين وهيبرنيان الاسكتلنديان، وفي 1965 عاد ستين للعمل كمدير فني إلى سيلتيك، واستمر معهم 13 عامًا، صنع لهم فيه المجد، وحفر اسمه بحروف من ذهب، فما فعله كان مبهرًا وعظيمًا، فحقق الدوري الاسكتلندي 10 مرات، وكأس اسكتلندا 8 مرات وكأس الرابطة 6 مرات، وكأس أبطال أوروبا بمسماه القديم 1967.
وبعدها تحقق حلم (ستين) الثاني، فمن كان أقدر من أسطورة التدريب، وثاني أكثر مدرب تحقيقًا للألقاب في عالم الكرة (28 بطولة)، والمدرب الأعظم في تاريخ اسكتلندا، من تدريب منتخب بلاده في 1978.
وظل (ستين) يقود المنتخب حتى اليوم الفصل، في 1985، تحديدًا في العاشر من سبتمبر/أيلول من هذا العام، ذلك اليوم الذي انتظره لأعوام وتمناه، فالمنتخب الاسكتلندي يومها كان قاب قوسين، أو أدني من التأهل لكأس العالم 1986.
يومها كانت مباراة مصيرية بين منتخب اسكتلندا أمام ويلز، على ملعب نينيان بارك، باستاد نادى كارديف سيتى، وكتيبة ستين في حاجة فقط للتعادل، من أجل التأهل للملحق الفاصل.
توتر (ستين) وقتها كان يفوق الوصف، ففي باله يدور ألف احتمال، يفكر في ملايين الاسكتلنديين، الذين يعلقون عليه كل الآمال، فوقف على الخط منذ الدقيقة الأولى للمباراة يعنف لاعبيه ويعطيهم التوجيهات، ويحفزهم، ولكن ما الذي حدث، جاءت الرياح بما لا تشتهيه سفن ستين، بتقدم المنتخب الويلزى بهدف فى الشوط الأول، ذلك الهدف الذي قد يحطم حلمه هذه المرة، ويقضى على تأهلهم.
وزاد هذا من توتره ومعها زادت نبضات قلبه، فهو يود لو ينضم إلى لاعبيه في الملعب ويحرز هدف التعادل، خاصة وأن المباراة أصبحت على وشك الانتهاء، ولا تزال الهزيمة هي حليفة الاسكتلنديين، وظل الوضع هكذا حتى الدقيقة (80)، التي أنعشت القلوب من جديد، فالحكم الهولندي، جان كييزر، احتسب لهم ضربة جزاء.
وبينما يتقدم اللاعب كوبى ديفى، لتنفيذ ضربة الجزاء، كان ستين يشعر بألم شديد فى صدره وقلبه يتمزق من الوجع وتزداد نبضاته وآلامه، وحاول التغلب على هذا الشعور، وأخذ يخاطب الكرة من على الخط، دون أن ينطق بكلمة، وكأنه يتوسل إلى محبوبته، يترجاها ألا تتركه في هذا اليوم الذي يحتاج فيه إليها أكثر من أي وقت مضى.
كان يقول لها في داخل نفسه: “اسكني الشباك، أسعديني، وأسعدي كل هذه الجماهير. امنحينا العبور إلى كأس العالم.. كوني كما عهدتك دومًا سر الحياة ومفتاح السعادة.. اسكني الشباك ولا تخذليني”، وبالفعل لم تخذله، فسددها لاعبه بثبات شديد، وأسكنها الشباك.
ومع تسجيل التعادل، تعالت الصيحات في المدرجات الاسكتلندية، تشجعيًا وامتنانًا، والفرحة تملأ وجوههم، وكانت الدقائق المتبقية ثقيلة للغاية عليهم، وعلى قلب ستين، الذي لا يزال صدره يؤلمه بشدة. جميعهم في انتظار صافرة النهاية بهذه النتيجة التي ترضيهم، لكنهم لم يتوقعوا أن تأتيهم الصدمة مع نهاية اللقاء، رغم تعادلهم وتأهلهم لمونديال 1986.
الصدمة كانت بوفاة ستين، بعدما اشتد عليه الألم بضراوة مع انتهاء مباراة، وسقط ميتًا نتيجة أزمة قلبية من فرط سعادته بالتأهل، ولم يكن ذلك في الحسبان، فلم يتوقع أن فرحته لن تكتمل، وأن حلمه هذه المرة بقيادة منتخب بلاده في كأس العالم، لن يتحقق، ويتركه لخليفته أليكس فيرجسون.
لم يكن يتخيل رفاقه، ولو للحظة ولا (ستين) نفسه أنَّ مزحتهم معه قبل أعوام كثيرة مضت، ستنقلب إلى كابوس، وأنه سيموت هكذا بين أحضان الكرة التي أحبها وأخلص لها، بعدما أسعد الاسكتلنديين على حساب نفسه.