لم يكن جاري لينيكر يتخيل يومًا أن يشهد لاعبًا يقترب من سحر ليونيل ميسي حتى ظهر لامين يامال. قال النجم الإنجليزي السابق في بودكاسته “Stick to Football” بعد التعادل الملحمي بين برشلونة وإنتر ميلان (3-3) في نيسان/أبريل الماضي: “إنه يمرّ من أمام اللاعبين وكأنهم غير موجودين. يجعلك تصدق أن الكرة تطيعه طاعةً عجيبة”.
لكن الحماس الممزوج بالدهشة لم يمنع لينيكر من إطلاق تحذير صادق: “إنه لاعب مذهل، لكنهم يُحمّلونه أكثر مما يجب. هذا قد يدمر مستقبله قبل أن يبدأ”.
وبينما كانت كلمات لينيكر تبدو آنذاك كنوع من المبالغة الحذرة، تحوّلت اليوم إلى نبوءة تقلق برشلونة وإسبانيا معًا. فالمراهق الأعجوبة الذي خطف أنظار العالم بات يواجه خطر الإرهاق البدني والنفسي في سن لم يكتمل فيها نضجه الجسدي بعد.
فتى السابعة عشرة الذي هزم الزمن
عندما ظهر يامال لأول مرة مع برشلونة في نيسان/أبريل 2023، كان يبلغ 15 عامًا و9 أشهر و16 يومًا فقط، ليصبح أصغر لاعب يرتدي قميص الفريق الكتالوني في الدوري الإسباني. وخلال عامٍ واحد فقط، تحول من مجرد موهبة ناشئة إلى ركيزة أساسية في تشكيلة الفريق الأول.
في موسم 2023-2024، شارك في 37 مباراة من أصل 38 في الدوري الإسباني، وخاض 10 مباريات في دوري أبطال أوروبا، بدأ سبعًا منها أساسيًا، ليؤكد أنه ليس مجرد مشروع لاعب كبير، بل نجم جاهز فعليًا للنجومية.
تألّقه السريع دفع مدرب إسبانيا لويس دي لا فوينتي إلى استدعائه لبطولة يورو 2024، حيث خطف الأضواء رغم أنه كان لا يزال يحمل كتبه المدرسية معه إلى ألمانيا استعدادًا لامتحاناته. هناك، قدّم أداءً مذهلًا ولقّن الفرنسي أدريان رابيو درسًا قاسيًا في مباراة لا تُنسى. كان مراهقًا بأسنان مقوّمة.. لكنه لاعب بعقل ميسي.
منذ بيليه في مونديال 1958 لم يظهر مراهق بهذا التأثير على كرة القدم العالمية. لكن في المقابل، كان ثمن هذه الانطلاقة الخرافية باهظًا.
عبء الموهبة المبكرة
تزايد اعتماد برشلونة وإسبانيا على يامال بشكل خطير خلال موسم 2024-2025. لعب الجناح الشاب أول 11 مباراة لبرشلونة في الموسم الجديد، ولم يبدأ على دكة البدلاء إلا مرة واحدة فقط — المباراة التي خسرها الفريق أمام أوساسونا، ما زاد الضغط عليه باعتباره “الفارق الحقيقي” في الفريق.
ثم جاء الاستدعاء المتكرر للمنتخب الإسباني في دوري الأمم الأوروبية، ليكمل سلسلة من المباريات المرهقة على المستويين المحلي والدولي. بعد فوزه على الدنمارك في أكتوبر، شعر يامال بانزعاج طفيف في الفخذ، فاستبعده دي لا فوينتي من مواجهة صربيا، موضحًا أن “صحة اللاعب تأتي أولًا”.
لكن رغم هذه الكلمات المطمئنة، لم يكد يعود إلى برشلونة حتى تعرض لإصابة في الكاحل أبعدته عن أربع مباريات متتالية. المفارقة أن برشلونة تعثر، ما أكد مرة أخرى مدى اعتماد الفريق عليه، حتى في غيابه.
وفي حديثه مع شبكة ESPN بنهاية الموسم الماضي، كشف يامال عن تطوره الذهني المبكر، قائلًا: “تعلمت هذا الموسم كيف أُدير نفسي داخل المباريات. لا يمكنك الركض طوال الوقت. عليك أن تعرف متى تتحرك ومتى تلتقط أنفاسك، سواء في المباراة أو في التدريبات. هذا ما كان يفعله ميسي”.
بالفعل، بدا الشاب وكأنه يستنسخ وعي ميسي بنفسه وإدارته لطاقة جسده. لكن إدارة الطاقة الذهنية شيء، وإدارة الأحمال البدنية شيء آخر — وهذا ما فشل فيه النادي والمنتخب على حد سواء.
أزمة المسكنات التي أشعلت النار بين برشلونة وإسبانيا
في سبتمبر، تفجّرت الأزمة علنًا. كان يامال قد تألق في بداية الموسم، مسجلًا خمسة أهداف في أول ثلاث مباريات بالليجا، قبل أن ينضم للمنتخب الإسباني في تصفيات المونديال أمام بلغاريا وتركيا. هناك، كما كشف هانز فليك لاحقًا، لعب وهو يعاني من إصابة طفيفة.
قال فليك غاضبًا بعد عودة لاعبه مصابًا: “ذهب إلى المنتخب وهو متألم ولم يتدرب. أعطوه مسكنات ليلعب! كانوا متقدمين بثلاثة أهداف ومع ذلك لم يبدلوه، هذا ليس منطقًا. لم يهتموا بسلامته، وأنا حزين لذلك”.
أجّجت هذه التصريحات الخلاف بين فليك ودي لا فوينتي. ورد الأخير قائلًا: “أقول الحقيقة دائمًا. كانت مجرد آلام خفيفة يمكن السيطرة عليها. لم يُبلغنا بشيء خطير”.
لكن برشلونة أعلن بعدها تفاقم إصابة الفخذ خلال مواجهة باريس سان جيرمان، ليغيب يامال مجددًا عن الملاعب لفترة غير محددة. وهكذا تحولت المسألة من “انزعاج بسيط” إلى “أزمة مفتوحة” لا أحد يعرف كيف ستنتهي.
رقم صادم: دقائق لعب قياسية في عمر 18 عامًا
تقرير الاتحاد الدولي للاعبين المحترفين (FIFPRO) لعام 2024 فجّر مفاجأة مذهلة: لامين يامال لعب نحو 2000 دقيقة أكثر من جود بيلينجهام قبل بلوغ الثامنة عشرة — وهو رقم لم يبلغه أي لاعب فاز بجائزة الفتى الذهبي في التاريخ.
التقرير أشار أيضًا إلى أن العديد من الفائزين بهذه الجائزة عانوا لاحقًا من إصابات مزمنة بسبب الأحمال الزائدة في سن مبكرة، مثل ماريو جوتزه، بول بوجبا، ريناتو سانشيز، وأنتوني مارسيال.. بل وحتى زميليه في برشلونة بيدري وجافي، اللذين دفعا الثمن باهظًا بعد مواسم مفرطة في عدد المباريات.
سُئل يامال في يورو 2024 إن كان يخشى أن يلقى مصير بيدري الذي خاض 73 مباراة في موسم واحد قبل أن ينهار بدنيًا، فأجاب بثقة: “الأمر يعتمد على الشخص نفسه”، إجابة واثقة، لكنها تعكس أيضًا سذاجة عمره. فالموهبة لا تحمي الجسد من الانهاك.
لا يحتاج برشلونة إلى تذكير جديد بخطورة تجاهل الإشارات البدنية. فقبل يامال، عاش النادي التجربة ذاتها مع أنسو فاتي، الذي حطم الأرقام القياسية في عمر السادسة عشرة، قبل أن تتوالى إصاباته وتوقف مسيرته لسنوات. واليوم، يحاول فاتي استعادة نفسه من جديد مع موناكو بعد أن كاد يضيع حلمه تمامًا.
السيناريو ذاته قد يطارد يامال إن لم يجد من يحميه من حماسه ومن رغبة الجميع في استغلاله.
فليك.. من الغضب إلى الشراكة
أدرك فليك سريعًا أن الصدام مع المنتخب الإسباني ليس الحل. فبعد أيام من تصريحاته الغاضبة، تبنّى نبرة أكثر هدوءًا، قائلاً: “انتهى الأمر بالنسبة لي. لا ألوم أحدًا. أنا فقط أردت حماية لاعبي. الآن علينا جميعًا أن نتعاون — النادي والمنتخب واللاعب نفسه — لإدارته بشكل صحيح”.
وأضاف: “علينا أن نسير خطوة بخطوة، وأن نُقلل من أعبائه التدريبية. هذا اللاعب كنز للكرة الإسبانية، ومسؤوليتي أن أحميه”.
كلمات تشير إلى تحول في الموقف، وإدراك متأخر لضرورة إدارة الموهبة بعناية لا بالانفعال.
من المفارقات اللافتة أن ميسي لم يخض موسمًا من 50 مباراة كاملة مع برشلونة إلا بعد بلوغه 22 عامًا، في حين أن يامال فعل ذلك مرتين قبل أن يبلغ 18 عامًا. الفارق في الحمل البدني والذهني هائل، وهو ما يجعل المقارنة بينهما على مستوى الاستمرارية غير منصفة أبدًا.
لقد جاء يامال إلى كرة القدم في زمن لا يرحم، زمن يُطالب فيه الشاب بأن يكون بطلاً منذ لحظة ظهوره، وأن يحمل فريقًا كاملًا على كتفيه في سن المراهقة. ومهما كانت موهبته خارقة، فإن الجسد البشري له حدود.
هل يُمكن إنقاذ الموهبة قبل فوات الأوان؟
السؤال الآن: من المسؤول عن حماية يامال؟ اللاعب نفسه؟ النادي؟ أم الاتحاد الإسباني؟
الجواب الأقرب إلى الصواب: الجميع. لأن يامال لم يعد مجرد لاعب في برشلونة، بل رمزًا لطموح كرة القدم الإسبانية بعد ميسي. وبالتالي، فإن فشله أو انهياره سيكون فشلًا مشتركًا بين الطرفين.
الأندية الكبرى بدأت تدرك أن إدارة المواهب الشابة تحتاج إلى نظام علمي متكامل — من مراقبة الأحمال اليومية إلى ضبط عدد الدقائق في الموسم. فالمواهب لا تُصنع باللعب فقط، بل بالراحة أيضًا.
في النهاية، لا يهم إن كان يامال قادرًا على “مجاراة ميسي” أو كسر أرقامه. الأهم هو أن تتاح له الفرصة ليلعب لعشر سنوات قادمة على الأقل دون أن يتحول إلى اسم آخر في قائمة المواهب التي أحرقتها الأضواء مبكرًا.
قال فليك بصدق في آخر تصريح له: “الحفاظ على صحة لامين هو مصلحتنا جميعًا. إن استطعنا حمايته الآن، فسيمنح كرة القدم أكثر مما نحلم به”.
لامين يامال يملك كل ما يلزم ليكون أحد أعظم لاعبي جيله، وربما أحد أعظم لاعبي التاريخ.. لكن المجد، كما علمتنا كرة القدم، لا يُمنح للمواهب فقط، بل لأولئك الذين يعرفون كيف يحمونها من الانطفاء.