قبل عامٍ واحد فقط، كان رودري يحتفل بمجدٍ لم يسبقه إليه أي لاعب في تاريخ مانشستر سيتي — رفع جائزة الكرة الذهبية بيدٍ ثابتة بعد موسمٍ استثنائي تُوّج فيه بكل شيء: الدوري الإنجليزي، دوري الأبطال، والبطولة الأوروبية مع منتخب بلاده. بدا لاعب الوسط الإسباني وكأنه يجسد الكمال، المحور الذي لا يُهزم، ونبض الفريق الذي لا يتعب. لكن اليوم، يقف الرجل نفسه على الجانب الآخر من القصة — جسدٌ منهك، ركبة خائنة، ومسيرة تتأرجح على حافة المجهول.
كانت رحلة مانشستر سيتي إلى فياريال في دوري أبطال أوروبا تُفترض أن تكون لحظة عودةٍ مظفرةٍ لرودري إلى المكان الذي وُلد فيه كلاعب محترف. ملعب “لا سيراميكا” الذي احتضن بداياته الأولى، بات الآن شاهداً على تساؤلاتٍ موجعة: هل ما زال قادرًا على استعادة ذلك الإيقاع الذي جعل سيتي آلة لا تُقهر؟ أم أن الجسد الذي قاده إلى المجد بدأ ينهار تحت وطأة ما حققه؟
وُلد رودري في مدريد، وبدأ رحلته مع رايو ماخاداهوندا قبل أن ينتقل إلى أكاديمية أتلتيكو مدريد. غير أن النادي العاصمي تخلّى عنه عام 2013 لاعتقاده أنه يفتقر إلى البنية الجسدية القوية اللازمة للنجاح. لم يكن يدري أحد حينها أن الفتى الهادئ الذي استُبعد بسبب نحافته سيصبح لاحقًا أفضل محور ارتكاز في العالم.
وفي السابعة عشرة من عمره، انتقل إلى فياريال. وهناك، لم يكن مجرد لاعب واعد؛ بل كان طالبًا جامعيًا أيضًا. التحق بجامعة كاستيون لدراسة إدارة الأعمال، وسكن في السكن الجامعي مع زملائه، محافظًا على حياة بسيطة لا تشبه حياة نجوم كرة القدم.
روى صديقه فالنتين هيناريجوس لصحيفة “ماركا”: “كان من المدهش أن ترى رودري، الذي يواجه ميسي ورونالدو في نهاية الأسبوع، يقف في طابور الغسيل أو يلعب تنس الطاولة معنا مساءً. لم يتغيّر على الإطلاق رغم صعوده السريع، كان يعيش حياته بطريقة عادية تمامًا”.
حتى سيارته — أوبل كورسا متواضعة — وهاتفه المحمول الذي كان بالكاد يعمل، كانا دليلين على تواضعه. قال رودري لاحقًا: “فياريال منحني كل شيء، كان المكان المثالي للنمو كلاعب وإنسان”. لكن ذلك الهدوء لم يستمر طويلاً.
الرحلة إلى القمة
في صيف 2018، استعاد أتلتيكو مدريد لاعبه السابق مقابل 20 مليون يورو، بعد أن أصبح واحدًا من أكثر لاعبي الوسط نضجًا في الدوري الإسباني. وبعد موسمٍ واحدٍ فقط، ضاعف النادي ربحه ثلاث مرات عندما باعه إلى مانشستر سيتي مقابل 70 مليون يورو — أغلى صفقة في تاريخ النادي آنذاك.
هناك، تحت قيادة بيب جوارديولا، تحول رودري إلى ما يشبه “المحور المثالي”. لم يكن فقط منظم الإيقاع، بل كان روح الفريق التي لا تهدأ. ومع كل تمريرة دقيقة وافتكاك ناجح، كان يرسخ مكانته كلاعب لا غنى عنه.
ساهم رودري في فوز مانشستر سيتي بأربعة ألقاب متتالية في الدوري الإنجليزي الممتاز، وكان صاحب الهدف التاريخي في نهائي دوري الأبطال الذي منح النادي لقبه الأول في البطولة. ثم جاء تتويجه مع منتخب إسبانيا ببطولة يورو 2024 ليضع خاتم المجد على مسيرةٍ خارقة، أعقبها نيله جائزة الكرة الذهبية — ليصبح أول لاعب من مانشستر سيتي وأول إسباني منذ لويس سواريز عام 1960 يحققها. كانت تلك ذروة المجد، لكنها أيضًا بداية الانحدار غير المرئي.
الركبة التي كسرت الحلم
في سبتمبر 2024، وبينما كان يعيش أوج عطائه، تعرض رودري لإصابة مروعة في الرباط الصليبي الأمامي. ما بدا في البداية كحادث عابر، اتضح لاحقًا أنه نقطة تحول قاتلة. فاللاعب الإسباني لم يعانِ فقط من تمزق في الرباط الصليبي، بل من تلفٍ في الغضروفين الهلاليين الداخلي والخارجي — ما يُعرف طبيًا بـ”الثالوث المروع”، وهي من أسوأ أنواع إصابات الركبة على الإطلاق.
يقول الجراح المتخصص جوردون ماكاي لـذا أثليتيك: “عندما يتضرر الغضروف الخارجي مع الرباط الصليبي، يصبح التعافي أكثر تعقيدًا، والنتائج أقل قابلية للتنبؤ. إنها إصابة لا تترك الركبة كما كانت أبدًا”.
تولّى الدكتور مانويل لييس في مدريد — الطبيب المعروف الذي عالج راموس وسواريز وزيدان — مسؤولية الجراحة، مشيرًا إلى أن رودري “ذكي جدًا ويملك فريق دعم طبي ممتاز”. لكن رغم العناية القصوى، ظهر الخلاف مبكرًا بين اللاعب ومدربه بيب جوارديولا حول سرعة العودة إلى الملاعب.
العودة المبكرة.. الخطأ القاتل
منذ اليوم الأول بعد الجراحة، كان جوارديولا واضحًا في تحذيراته: “الرباط الصليبي الأمامي يحتاج وقتًا. لا يمكنك استعجال الجسد البشري.” ومع ذلك، وبعد أقل من ثمانية أشهر، عاد رودري للعب عشر دقائق أمام بورنموث في نهاية موسم الدوري.
العودة كانت سريعة جدًا — وربما قاتلة لمسيرته. وفي ديسمبر، اصطحبه جوارديولا إلى كأس العالم للأندية في الولايات المتحدة. ورغم إشراكه تدريجيًا، شارك أساسيًا في النهائي ضد يوفنتوس قبل أن يخرج مصابًا في الوقت الإضافي. لاحقًا، اعترف المدرب بأن تلك المشاركة كانت “خطأً كبيرًا” و”إصابة خطيرة كلفتنا الموسم”.
قال جوارديولا وقتها: “كنت أتمنى أن يعود رودري للملاعب من دون ألم. لكنه ما زال يشعر بالأوجاع. ما نريده الآن هو شفاءٌ كامل، لا عودة متسرعة”.. لكن النيات الحسنة لم تكفِ. بعد فترة قصيرة من العودة، بدأ الألم يعود، وبدأ الجسد ينهار مرة أخرى.
ألم لا يُرى
في مطلع الموسم الجديد، بدا أن رودري استعاد عافيته تدريجيًا. شارك ضد توتنهام، ثم لعب 90 دقيقة كاملة أمام برايتون — أول مباراة كاملة له منذ 11 شهرًا. بدا الأمر وكأن كل شيء يسير في الاتجاه الصحيح.
لكن سرعان ما ظهرت الحقيقة الموجعة. بعد أسبوع من ثلاث مباريات متتالية أمام مانشستر يونايتد ونابولي وآرسنال، ذهب إلى جوارديولا في التدريب وقال:
“لا أستطيع اللعب.. الألم لا يُحتمل”.
كشف المدرب لاحقًا أنه يعاني من مشكلة في أوتار الركبة بسبب الإجهاد الزائد، مؤكدًا: “رودري لم يعد قادرًا على تحمّل وتيرة مباريات مانشستر سيتي المعتادة. يحتاج إلى وقت وصبر. هذا النوع من الإصابات لا يُشفى بالكامل قبل مرور عام كامل”.
لكن الزمن في كرة القدم لا ينتظر أحدًا — لا حتى الرجل الذي جعل الجميع يظنون أن مانشستر سيتي لا يخسر أبدًا بوجوده.
أسرع مما يجب
على الرغم من تحذيرات جوارديولا، بدأ رودري مجددًا أساسياً أمام موناكو، ثم أمام برينتفورد بعد أربعة أيام فقط. النتيجة كانت كارثية: بعد 22 دقيقة فقط، خرج مصابًا بإصابة جديدة في أوتار الركبة.
قال رودري لشبكة سكاي سبورتس: “ليست إصابة خطيرة، لكنها مؤلمة بما يكفي لإبعادي”، لكن المدرب لم يخفِ ندمه هذه المرة: “حاولنا بكل الطرق أن نتجنب المخاطرة، لكننا فشلنا. إنه مؤلم للجميع، لأننا نعرف مدى أهميته”.
غيابه عن مباريات فياريال وأستون فيلا وإيفرتون أكد أن الدائرة قد أُغلقت — الجسد لم يعد قادرًا على مجاراة الطموح.
نقطة ضعف الفريق الذي لا يُهزم
لم يكن هناك لاعب أكثر تأثيرًا على نتائج مانشستر سيتي من رودري. فالفريق لم يخسر أي مباراة في جميع المسابقات خلال فترة امتدت 15 شهرًا متى كان الإسباني في التشكيلة الأساسية. كانت الهزيمة أمام برايتون في أغسطس أول خسارة للفريق في الدوري بحضوره منذ فبراير 2023. لقد كان صمّام الأمان، المرساة التي تحفظ التوازن. ومع كل غيابٍ له، بدا سيتي فريقًا مختلفًا، هشًا في عمقه، بلا قائدٍ ينظم الإيقاع.
الآن، ومع دخول رودري الأشهر الثمانية عشر الأخيرة من عقده، يواجه النادي معضلة كبيرة: هل يجدد عقد لاعب لم تعد لياقته البدنية مضمونة؟ أم يبدأ التفكير في بديلٍ يُحافظ على فلسفة جوارديولا القائمة على السيطرة الكاملة؟
التقارير الصحفية تؤكد أن الإدارة تُخطط لتقديم عقد جديد مُحسّن يضعه في فئة الرواتب العليا بجانب إيرلينج هالاند، تقديرًا لتاريخه ودوره القيادي. لكنّ العائق الأكبر لم يعد المال، بل الجسد نفسه.
ريال مدريد.. الحلم المؤجل
ورغم المخاوف الصحية، لا يزال رودري يحظى باهتمام ريال مدريد، الذي يرى فيه خليفة مثالية لخط وسطه. فالنادي الملكي اعتاد اصطياد النجوم الكبار في مراحل نضجهم، كما فعل مع رونالدو وكانافارو وكاكا.
صحيفة “ماركا” كتبت في أغسطس: “ريال مدريد يريده — وهذا ليس سرًا. أرادوه سابقًا، ويريدونه الآن، وسيريدونه غدًا”.
لكن واقع اليوم أكثر قسوة. عند نهاية عقده في 2026، سيكون رودري قد بلغ الحادية والثلاثين، وسيرغب بعقد طويل الأمد ومكافأة توقيع ضخمة. أما مدريد، الذي يتبنى سياسة الاستثمار في الشباب، فقد لا يكون مستعدًا للمخاطرة بلاعبٍ تتهدده الإصابات.. الحلم الملكي يبدو بعيدًا. إلا إذا استعاد جسده قوته وعقله إصراره.
الدرس الأخير
تاريخ كرة القدم مليء بقصص مشابهة: راداميل فالكاو الذي لم يعد كما كان بعد إصابة الركبة، وأولي جونار سولشاير الذي اضطر للاعتزال مبكرًا. لكن هناك أيضًا وجوه انتصرت على الألم — رونالدو الذي عاد من جحيم الإصابات ليقود البرازيل إلى كأس العالم 2002، وفان نيستلروي الذي تجاوز تمزق الرباط الصليبي ليصبح هدّافًا أسطوريًا في أولد ترافورد.
قد يكون رودري اليوم في مفترق الطرق ذاته. أمامه خياران: إما أن يندب حظه ويصبح رمزًا لانهيارٍ مبكر، أو أن يُعيد كتابة قصته ببطء وثبات، كما فعل أولئك الذين غلبوا أجسادهم بالإرادة.
في مانشستر، يدرك الجميع أن الفريق من دونه ليس هو نفسه. ولذلك، فإن الأمل الأخير لجوارديولا وطاقمه الطبي هو أن يتعلّم رودري أخيرًا أن “يأخذها ببساطة” — أن يمنح جسده الوقت الذي لم يمنحه إياه من قبل.
ربما لن يعود اللاعب الذي لا يخطئ تمريرة، ولن يتمكن من خوض 60 مباراة في الموسم، لكن بإمكانه أن يعود أكثر حكمة، أكثر نضجًا، وأكثر إنسانية. فبعد كل شيء، حتى الآلات التي صنعها جوارديولا تحتاج أحيانًا إلى التوقف.. والتنفّس.



