في كرة القدم، لا شيء يضمن استمرار المجد. اللاعب الذي يُلهب الجماهير اليوم، قد يصبح موضع تساؤل غدًا. وبينما يكتب البعض أسطورتهم في نادٍ واحد، يواجه آخرون صدمات مؤلمة حين يغادرون بيئتهم المثالية إلى تجربة جديدة لا تشبههم.
وربما لا يوجد مثال أبلغ على ذلك من روميلو لوكاكو، المهاجم البلجيكي الذي لامس الكمال بقميص إنتر ميلان، ثم سقط سقوطًا مدويًا في مغامرته الثانية مع تشيلسي.
هذه قصة نجم عاش بين ضفتين متناقضتين: بين المجد الإيطالي والانكسار الإنجليزي، بين الحب والرفض، بين الصخب في “سان سيرو” والصمت في “ستامفورد بريدج”.إنها قصة نجاحٍ ضخم.. تلاه انهيار مدوٍ.
البداية من الحلم.. طفل آمن بالقوة
ولد روميلو لوكاكو في أنتويرب البلجيكية عام 1993، في أسرة بسيطة من أصول كونغولية، وكان منذ طفولته مهووسًا بكرة القدم إلى درجة الجنون.
يحكي لوكاكو في سيرته الذاتية أنه أدرك وهو في السادسة من عمره أن عائلته تعاني الفقر، فتعهد أن يجعل والديه فخورين به من خلال كرة القدم.
تلك اللحظة ولّدت داخله دافعًا هائلًا جعله مختلفًا عن أقرانه: لا يلعب من أجل المتعة فقط، بل من أجل البقاء، من أجل الكرامة.
بدأ مسيرته في نادي أندرلخت البلجيكي، حيث انفجر كمراهق خارق، فسجل أهدافًا بغزارة وجذب أنظار الكشافين من كبار أوروبا، لينتقل وهو في الثامنة عشرة إلى تشيلسي عام 2011 في صفقة مثّلت حينها قفزة هائلة في مسيرته.
تشيلسي الأول.. الموهبة التي لم تجد مكانها
حين وصل لوكاكو إلى لندن، كان لا يزال شابًا ضخم البنية قليل الخبرة، يدخل غرفة ملابس مليئة بالنجوم والأساطير. كان حلمه أن يصبح “دروجبا الجديد”، لكن الواقع كان أقسى بكثير.
لم يحصل البلجيكي على الفرص الكافية، ولم يشارك سوى دقائق محدودة في موسم تلو الآخر، قبل أن تتم إعارته إلى ويست بروميتش ألبيون، حيث بدأ يثبت نفسه فعليًا، ثم إلى إيفرتون الذي تحوّل معه إلى ماكينة أهداف حقيقية.
في ميرسيسايد، وجد لوكاكو نفسه: لاعبًا أساسيًا، محبوبًا من الجماهير، وحاسمًا أمام المرمى. لكن طموحه كان أكبر. أراد العودة إلى القمة، إلى نادٍ ينافس على الألقاب الكبرى، فانتقل إلى مانشستر يونايتد عام 2017 بصفقة ضخمة قاربت 85 مليون يورو.
سنوات يونايتد.. بين الأهداف والانتقادات
بدا انتقاله إلى مانشستر يونايتد خطوة مثالية. المهاجم الذي يسجل بلا توقف، في نادٍ يبحث عن منقذ هجومي بعد سنوات ما بعد فيرجسون.
وفي موسمه الأول، سجل لوكاكو 27 هدفًا في كل البطولات، وساهم في بلوغ الفريق نهائي كأس إنجلترا ونصف نهائي الدوري الأوروبي.
لكن سرعان ما بدأت الانتقادات تنهال عليه. شكك البعض في لمساته الأولى للكرة، في لياقته، في قدرته على التألق في المباريات الكبيرة.
وتحت قيادة أولي جونار سولشاير، بدأ يخسر مكانه الأساسي لصالح ماركوس راشفورد وأنتوني مارسيال.
وبدا أن العلاقة بين لوكاكو وجماهير يونايتد لم تُبْنَ على الحب المتبادل كما كان يأمل.
حينها قرر الرحيل، وأدار وجهه نحو إيطاليا، حيث كان أنطونيو كونتي ينتظره ليصنع منه نسخة لا تُقهر.
ولادة الوحش في ميلانو
حين حط لوكاكو الرحال في إنتر ميلان صيف 2019، كان يبحث عن بداية جديدة، عن نادٍ يمنحه الثقة الكاملة، وعن مدرب يؤمن به دون شروط.
وقد وجد ذلك كله في كونتي، الذي كان مفتونًا بإمكاناته منذ أن كان مدربًا لتشيلسي، ولم يتمكن وقتها من التعاقد معه.
في إيطاليا، تغير كل شيء. كونتي أعاد تشكيله ذهنيًا وبدنيًا: جعله يلعب كمحور هجومي متكامل، يعتمد على القوة والسرعة والتحركات الذكية، لا فقط على التسجيل.
كوّن ثنائيًا مذهلًا مع الأرجنتيني لاوتارو مارتينيز، وسرعان ما أصبحا يعرفان بين الجماهير باسم “لو-لا”، في موسمه الأول، سجل لوكاكو 34 هدفًا في جميع المسابقات، وقاد إنتر إلى نهائي الدوري الأوروبي.
وفي الموسم التالي، بلغ ذروة مجده، حين قاد الفريق إلى لقب الدوري الإيطالي 2020-2021 بعد غياب 11 عامًا، محررًا الجماهير من هيمنة يوفنتوس الطويلة.
تُوج حينها بجائزة أفضل لاعب في “السيري آ”، وكان رمزًا للروح القتالية والعزيمة. الجماهير عشقته بجنون، ورفعت صوره في المدرجات، واعتبرته “ملك ميلانو الجديد”. لكن القدر كان يُعد له فصلًا مأساويًا قادمًا.
الصفقة التي دمّرت الحلم
في صيف 2021، وبعد رحيل كونتي عن إنتر لأسباب مالية، تلقى النادي عرضًا مغريًا من تشيلسي لإعادة لوكاكو مقابل 115 مليون يورو، كأغلى صفقة في تاريخ البلوز حينها.
كانت العودة إلى لندن بمثابة “قصة حب ثانية”، أراد لوكاكو أن يثبت من خلالها أنه أصبح اللاعب الذي حلم به قبل عقد من الزمن. لكن منذ اليوم الأول، بدا أن الأمور تسير في الاتجاه الخطأ.
في بيئة مختلفة، وتكتيك جديد تحت قيادة توماس توخيل، عانى لوكاكو من سوء التفاهم الفني. تشيلسي كان فريقًا يعتمد على الضغط العالي والتمرير السريع، بينما اعتاد البلجيكي على اللعب في مساحات مفتوحة وهجمات مرتدة منظمة.
لم يجد نفسه في المنظومة، ولم يجد الفريق طريقة لاستغلال قدراته بالشكل الصحيح. وبعد أسابيع قليلة فقط، بدأت الصحف تتحدث عن “خيبة الأمل الكبرى”.
اللاعب الذي كان هدافًا مخيفًا في إيطاليا، بدا تائهًا في لندن.
المقابلة التي فجّرت كل شيء
في ديسمبر 2021، أجرى لوكاكو مقابلة تلفزيونية مع قناة “سكاي سبورت إيطاليا” كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر العلاقة بينه وبين تشيلسي.
قال خلالها صراحة: “أنا لست سعيدًا هنا، لا أوافق على الطريقة التي يلعب بها المدرب، وأتمنى العودة إلى إنتر ميلان قريبًا”.
كانت تلك الكلمات بمثابة زلزال داخل النادي. الجماهير شعرت بالخيانة، والمدرب توخيل استبعده من المباريات مؤقتًا، والإدارة اعتبرت تصريحه تجاوزًا خطيرًا للخطوط الحمراء.
منذ تلك اللحظة، انتهت فعليًا قصة لوكاكو في تشيلسي. تحوّل إلى عبء نفسي وتكتيكي، فقد الثقة، وأصبح هدفًا للسخرية من وسائل الإعلام التي وصفته بـ”الصفقة الفاشلة”.
ورغم بدايته القوية بتسجيله في أولى مبارياته ضد آرسنال، إلا أن موسمه مع تشيلسي انتهى بإحصاءات متواضعة للغاية: سجل 15 هدفًا فقط في 44 مباراة، بينها 8 فقط في الدوري. أرقام لا تليق بلاعب بلغت قيمته أكثر من مئة مليون يورو.
لكن ما كان أكثر قسوة هو غياب الانسجام النفسي. في إنتر، كان لوكاكو يلعب بثقة وشغف، يبتسم ويصرخ بعد كل هدف. وفي تشيلسي، كان وجهه خاليًا من التعبير، خطواته بطيئة، وكأن شيئًا انكسر بداخله.
العودة إلى ميلانو.. ولكن!
في صيف 2022، قرر تشيلسي إعارته مجددًا إلى إنتر ميلان، في صفقة أعادت الدفء إلى قلوب الجماهير التي كانت تمزقها مشاعر مختلطة بين الحب والخذلان.
لكن الإصابات والضغوط النفسية منعته من استعادة مستواه السابق فورًا. عاد ليسجل بعض الأهداف المهمة، لكنه لم يعد “الوحش” الذي عرفه الجميع في موسم اللقب.
بلغ إنتر نهائي دوري أبطال أوروبا 2023، لكنه لم يكن اللاعب الأساسي فيه. وفي لحظة قاسية، أضاع فرصة محققة في النهائي أمام مانشستر سيتي، لتبقى تلك اللقطة رمزًا لمرحلة ما بعد السقوط: مهاجم عظيم لم يعد كما كان.
من بطل إلى منبوذ
بعد نهاية الموسم، ظهرت أزمة جديدة حين رفض لوكاكو التواصل مع إدارة إنتر بشأن تمديد إعارته، في الوقت الذي كان يتفاوض فيه سرًا مع الغريم يوفنتوس.
هذا التصرف فجّر غضب إدارة إنتر وجماهيره، الذين شعروا أن نجمهم السابق خان العهد. تغيرت النظرة نحوه فجأة: من “الملك روميلو” إلى “الخائن روميلو”.
وانتهى به المطاف في صيف 2023 ينتقل إلى روما على سبيل الإعارة، ليبدأ صفحة جديدة مع جوزيه مورينيو، المدرب الذي كان دائمًا يؤمن بقدراته.
لغز لوكاكو.. القوة بلا استقرار
حين تنظر إلى مسيرة روميلو لوكاكو، تدرك أنه يملك كل شيء يمكن أن يحلم به أي مهاجم: قوة بدنية هائلة، سرعة انفجارية، ذكاء في التحركات، وقدرة على إنهاء الفرص من مختلف الزوايا. لكن ما ينقصه هو الاستقرار النفسي والبيئي.
لوكاكو لاعب يحتاج إلى مدرب يؤمن به بشدة، وإلى منظومة تلعب لأجله، وإلى بيئة تشعره بالحب والقبول. حين تتوفر هذه العناصر، يصبح قاتلًا أمام المرمى، كما كان مع كونتي في إنتر. لكن حين تُنتزع منه الثقة، يتفكك سريعًا، ويتحول من قوة خارقة إلى ظلٍ مرتبك.
ربما لهذا السبب تتأرجح مسيرته دائمًا بين القمة والقاع، بين النجم الأبرز في دوري، والمهاجم المثير للجدل في دوري آخر.
دروس التجربة: بين الحب والغرور
قصة لوكاكو تحمل دروسًا عميقة لكل نجم يظن أن المجد يمكن أن يُشترى بالمال أو يُعاد بنسخة ثانية من الماضي.
لقد عاد إلى تشيلسي وهو يظن أنه سيكتب نهاية سعيدة لحكاية قديمة، لكنه نسي أن الظروف تغيّرت، والمدربين تغيّروا، والجماهير أيضًا تغيّرت.
في إنتر، كان الكل يدور حوله. في تشيلسي، كان مجرد قطعة في منظومة أكبر.
ولأن لوكاكو لم يتقن فن “التأقلم”، تحولت العودة إلى غرق بطيء في بحر من الضغوط والتوقعات.
ومع ذلك، تبقى مسيرته واحدة من أكثر القصص الدرامية في كرة القدم الحديثة: نجم أثبت أنه قادر على الصعود من الرماد، لكنه لم يعرف كيف يمنع نفسه من العودة إليه.
في نهاية المطاف، لا يمكن القول إن قصة روميلو لوكاكو قد انتهت. فهو لا يزال يمتلك القدرة على تسجيل الأهداف في أي مكان يذهب إليه، ولا يزال في سن يسمح له بكتابة فصل جديد من المجد.
كل ما يحتاجه الآن هو التألق مع نابولي.. قد لا يعود أبدًا ذلك المهاجم الذي دوّى اسمه في ميلانو، لكنه بالتأكيد يظل واحدًا من أكثر اللاعبين إثارة للجدل في جيله، ورمزًا للتقلبات التي تجعل كرة القدم لعبة العواطف قبل أن تكون لعبة الأرقام.



