منذ أن وطأت قدما إيرلينج هالاند أرض إنجلترا، بدا وكأن مانشستر سيتي قد عثر على القطعة المفقودة في آلة بيب جوارديولا الكروية. آلة هجومية لا تعرف الرحمة، وجدت أخيرًا من يحول تمريراتها المتقنة إلى أهداف بلا توقف. لكن موسم 2025-2026 بدأ يُظهر وجهًا آخر لتلك المعادلة.
فما كان يومًا مصدر قوة مطلقة، أصبح اليوم مكمن ضعف محتمل — اعتماد شبه كامل على النرويجي العملاق، يُهدد بانهيار منظومة الفريق في حال غاب الهدف أو تعطل تدفقه.
أحرز هالاند أهدافًا في 12 مباراة متتالية قبل أن يوقفه أستون فيلا أخيرًا، في نتيجة لم تفضح عجز المهاجم بقدر ما كشفت هشاشة منظومة مانشستر سيتي حين يُحرم من لمسة “المنقذ”.
برصيد 11 هدفًا في الدوري حتى الآن، يتصدر النرويجي قائمة هدافي المسابقة، لكن خلفه في مانشستر سيتي لا يلوح سوى فراغٍ مقلق؛ 4 لاعبين فقط تمكنوا من التسجيل طوال الموسم، والفريق يقبع في المركز الخامس على بعد 6 نقاط من آرسنال المتصدر.
لطالما كان الفريق السماوي مرادفًا للهجوم الجماعي والتهديف المتنوع. فمنذ عهد جوارديولا الأول، لم يعتمد الفريق على لاعب واحد لحسم المباريات، بل كان التهديد يأتي من كل الزوايا: دي بروين، سيلفا، فودين، وحتى رودري من بعيد.
لكنّ المشهد تغيّر هذا الموسم. كل الطرق المؤدية إلى المرمى تمر عبر هالاند، وإذا أُغلق الطريق، يضيع الفريق معه.
أستون فيلا يكشف الخلل
واجه مانشستر سيتي فيلا وهو في أفضل حالاته التهديفية. سلسلة الأهداف المتتالية جعلت الجميع يتحدث عن نسخة “غير قابلة للإيقاف” من هالاند، لكن أوناي إيمري كان لديه رأي آخر.
اعتمد فيلا خطة دفاعية محكمة تمزج بين القوة البدنية والانضباط التكتيكي. زاد من كثافة وسط الملعب عبر إشراك أمادو أونانا إلى جانب بوبكر كامارا، وطلب من قلبي الدفاع، إزري كونسا وباو توريس، ملازمة المهاجم النرويجي في كل تحرك.
النتيجة؟ لم يلمس هالاند الكرة سوى 4 مرات داخل منطقة الجزاء — رقم غير مسبوق له في أي مباراة منذ قدومه إلى الدوري الإنجليزي.
ورغم بعض اللحظات التي كادت أن تغيّر النتيجة، مثل تسديدته المباشرة على الحارس مارتينيز أو رأسيته المتأخرة التي أمسكها الأخير بثقة، فإن الصورة العامة كانت واضحة: إذا أُغلق الباب أمام هالاند، يغيب التهديد من بقية الفريق. حتى هدفه الملغى بداعي التسلل لم يكن كافيًا لإخفاء العيب البنيوي الذي ظهر للعيان.
جوارديولا يدافع.. لكن الأرقام لا ترحم
بعد المباراة، حاول بيب جوارديولا أن يخفف من وطأة القلق، مؤكدًا أن الفريق لم يكن سيئًا بل “افتقر فقط إلى اللمسة الأخيرة”. قال الكاتالوني: “الأمر لم يكن عن سوء الأداء، بل عن الإنهاء. كانت مباراة رائعة أمام خصم قوي. صنعنا 18 فرصة، وهذا ليس سيئًا على الإطلاق. التفاصيل الصغيرة هي من حسمت اللقاء”.
لكنّ التفاصيل الصغيرة التي أشار إليها جوارديولا ليست تفصيلًا تكتيكيًا عابرًا، بل قضية جوهرية تتعلق بتوازن المنظومة الهجومية. من بين 18 تسديدة لسيتي أمام فيلا، نصفها تم اعتراضه، وثلاث منها فقط كانت لهالاند وجميعها على المرمى. سافينيو كان الوحيد بجانبه الذي شكل تهديدًا حقيقيًا. أما برناردو سيلفا ودوكو ورايندرز ونونيز فلم يقدموا ما يكفي من اللمسات الحاسمة.
إذا كان جوارديولا يرى أن المشكلة مؤقتة تتعلق بالحظ أو براعة الحارس المنافس، فإن الأرقام ترسم مشهدًا أكثر عمقًا: السيتي فقد تنوعه الهجومي الذي كان سر تفوقه في السنوات الماضية.
حين يتحول النجم الى عبء تكتيكي
في موسم التتويج بالثلاثية التاريخية، كان هالاند بلا شك رأس الحربة الذي لا يُقاوم، لكنه لم يكن وحيدًا. خلفه، سجّل فودين 11 هدفًا، وألفاريز 9، وجوندوجان 8، ودي بروين 7، بل حتى رودري أضاف أهدافًا حاسمة.
عندما غاب هالاند عن التسجيل في نهائي كأس الاتحاد ودوري الأبطال، تكفّل الآخرون بالمهمة — جوندوجان في ويمبلي، ورودري في إسطنبول.
لكن مع مرور الوقت، تقلص هذا التوازن. في الموسم التالي، رغم تتويج السيتي بلقبه الرابع على التوالي، كان الاعتماد على هالاند أقل حدّة لكنه لا يزال واضحًا: النرويجي سجل 28 هدفًا، فيما قدّم فودين موسمًا استثنائيًا بـ19 هدفًا. أما اليوم، فلا أحد يبدو قادرًا على حمل العبء إذا صمتت قدماه الذهبية.
المثير أن ثاني أفضل “هدّافي” مانشستر سيتي في الدوري هذا الموسم ليس لاعبًا من الفريق على الإطلاق، بل هو ماكسيم إستيف مدافع بيرنلي الذي سجل بالخطأ في مرماه!
خلف هالاند، لا يوجد سوى أربعة أسماء على جدول التسجيل: فودين، نونيز، رايندرز، وتشيركي — وكلهم بأهداف محدودة لا تتجاوز الرقم الواحد.
الإدمان الهجومي غير الصحي
لا يختلف اثنان على أن هالاند من أكثر المهاجمين فاعلية في تاريخ اللعبة الحديثة، لكن المشكلة ليست في قدراته بل في حجم الاعتماد عليه.. الفرق الكبرى تحتاج إلى منظومة قادرة على تجاوز غياب نجمها، لا منظومة تنهار عند أول لحظة عقم تهديفي.
حين نقارن ذلك بما يقدمه ليفربول مثلًا، نجد أن محمد صلاح يتصدر التسجيل دائمًا، لكن خلفه هناك دعم من لويز دياز، جاكبو، وحتى نونيز. أما في مانشستر سيتي، فكل خيوط الهجوم تُجمع في يد رجلٍ واحد. تلك المعادلة قد تنجح في المدى القصير، لكنها لا تضمن بطولات طويلة النفس كالـ”بريميرليج”.
وحتى اللحظة، خسر مانشستر سيتي ثلاث مباريات من أصل تسع، وهو رقم لم يعرفه الفريق في هذه المرحلة منذ موسم 2016-2017، أول مواسم جوارديولا في إنجلترا. وفي الموسم الماضي، كان الفريق قد فقد أربع نقاط فقط في مثل هذه الفترة، بينما فقد الآن 11 نقطة كاملة.
التراجع ليس فقط في النتائج، بل في الأداء الجماعي. فالسيتي الذي اعتدنا أن يهاجم بخمسة أو ستة لاعبين في آنٍ واحد، أصبح يعتمد على تمريرة أو عرضية تنتهي بهالاند محاصرًا وسط ثلاثة مدافعين.
تراجعت كذلك فعالية الأطراف. جيريمي دوكو وسافينيو، اللذان كان يُنتظر منهما صناعة الفارق، لم يسجلا أي هدف في الدوري حتى الآن. أما فودين، الذي لطالما كان الورقة الرابحة، فظهر هذا الموسم بمردود متذبذب لا يرتقي لمستوى الحسم.
هل من خطة بديلة؟
جوارديولا من جهته رفض الانجرار إلى نغمة الذعر، مؤكدًا أن الموسم لا يزال طويلًا، وأن هناك الكثير من المنعطفات المقبلة. قال مبتسمًا في المؤتمر الصحفي: “سبق أن كنا متأخرين بست أو سبع نقاط وعدنا وتُوجنا. الدوري طويل جدًا. المهم أن نظل في السباق وأن نحافظ على مستوى الأداء”.
لكن ما بين التفاؤل والواقع تكمن الحقيقة الصعبة: لا يمكن لأي فريق أن ينافس على الدوري الإنجليزي الممتاز بالاعتماد على هدّاف واحد، مهما كان استثنائيًا.
الفرق المنافسة — من آرسنال إلى ليفربول إلى نيوكاسل — تمتلك منظومات تهديفية متعددة المصادر. في المقابل، يُخاطر مانشستر سيتي بأن يتحول إلى نسخة “هاري كين الجديدة”، الفريق الذي يُختزل في لاعب واحد كما قال جوارديولا ساخرًا عن توتنهام ذات يوم.
الآن، باتت السخرية قابلة للانعكاس. “فريق هالاند” أصبح توصيفًا لا يخلو من الحقيقة، وربما من التحذير أيضًا.
بين ضغط الجماهير ومكر الواقع
الضغوط تتزايد، والجماهير بدأت تتساءل: هل لا يزال جوارديولا يملك العصا السحرية التي تجدد دماء الفريق بعد ثمانية مواسم من السيطرة؟
التكتيكات التي كانت ثورية ذات يوم تبدو اليوم متوقعة. والرهان على عبقرية فردية واحدة في نظام اعتاد على التدوير والمرونة يجعل الفريق أقل قدرة على المفاجأة.
في غياب فودين ومرموش للإصابة المتكررة، وبتراجع مستوى برناردو سيلفا في الحسم، أصبح هالاند يحمل فوق كتفيه عبئًا غير إنساني. وحين يتعب، يتعب معه الجميع.
حتى في مباريات دوري الأبطال، يسجل سيتي أهدافه من مصادر محدودة جدًا، ما يُشير إلى خلل يتجاوز مجرد مباراة سيئة في فيلا بارك.
ما يحتاجه جوارديولا اليوم ليس “بديلًا لهالاند”، بل استعادة روح الفريق الذي لا يُقهر — الفريق الذي كان أي لاعب فيه قادرًا على التسجيل من العمق أو الأطراف.
يجب أن تعود منظومة الضغط العالي والتمريرات العميقة التي تخلق الفوضى في دفاعات الخصوم، لا الاكتفاء برفع الكرات نحو مهاجم وحيد.
مانشستر سيتي لا يزال يمتلك أفضل تشكيلة في إنجلترا من حيث الجودة الفردية، لكن كرة القدم الحديثة لا تُكافئ الموهبة وحدها، بل المنظومة المتكاملة.
وإذا لم يجد جوارديولا طريقة لإعادة التوازن إلى هجومه، فقد يصبح الموسم الحالي تذكيرًا قاسيًا بأن أعظم الفرق يمكن أن تسقط حين تُراهن على رجلٍ واحد.



