توريه من الحلم إلى المشرحة .. كرة القدم وعدته بالحياة فقادته للموت‎ – الرياضة نت
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On YoutubeCheck Our Feed

توريه من الحلم إلى المشرحة .. كرة القدم وعدته بالحياة فقادته للموت‎

في حي يمبول الفقير بضواحي دكار السنغالية، كان شيخ توريه يحلم.

حلم بسيط لشاب في الثامنة عشرة من عمره، قفازات حراسة جديدة، ملعب أخضر، وهتافات جماهير تصدح باسمه.

كان يحلم بأن يصبح حارس مرمى محترفا، بأن ينتشل أسرته من براثن الفقر المدقع الذي يعيشون فيه، بأن يمنح والديه حياة أفضل.

لكن “شيخ” لن يحقق أيا من هذه الأحلام، ففي 17 أكتوبر 2025، أعلنت وزارة الخارجية السنغالية خبر مقتله في غانا، على يد عصابة اختطفته، بعد أن أوهمته بفرصة احترافية مزيفة.

القصة ليست مجرد خبر عابر في صفحات الحوادث، إنها مأساة إنسان له أحلام وعائلة وأصدقاء، شاب وُصف بأنه “هادئ، متدين، ومتحمس لكرة القدم”.

شاب تحول من لاعب واعد في أكاديمية Esprit Foot بيمبول إلى جثة ملقاة في شارع بمدينة كوماسي الغانية.

عاشق للعبة

في أكاديمية Esprit Foot بحي يمبول، كان شيخ توريه معروفا بين زملائه ومدربيه.

كان ذلك الشاب الهادئ الذي يصل مبكرا للتدريبات، الذي يبقى لوقت متأخر ليتدرب على صد الكرات، الذي يحلم بصوت عال عن مستقبله الكروي.

كانت أسرته تعيش في ظروف صعبة، مثل النسبة الغالبة من سكان الأحياء الفقيرة في السنغال.

الفقر ليس مجرد كلمة هنا، بل واقع يومي يعني عدم القدرة على توفير الوجبات الثلاث، عدم القدرة على دفع إيجار المنزل، عدم القدرة على تخيل مستقبل أفضل.

كان “شيخ” يعرف أن كرة القدم هي الطريق الوحيد للخروج من هذا الواقع، يعرف قصص اللاعبين السنغاليين الذين صعدوا من أحياء مشابهة لأحيائه ليلمعوا في الدوريات الأوروبية الكبرى، يعرف أن القفازات التي يرتديها في التدريبات يمكن أن تكون تذكرته نحو حياة مختلفة تماما.

عندما يتحول الأمل إلى كابوس

في أحد الأيام، تلقى شيخ اتصالاً غيّر كل شيء.

وكلاء من غانا، أصوات جادة، وعود بعقد احترافي.. “نادٍ يريد التعاقد معك، يتابعك، ولكن عليك أن تأتي للتوقيع على الكشف الطبي”.

الحلم أصبح على مرمى حجر، شيخ لم يفكر مرتين، جمع ما استطاع من مال، ربما باع بعض أغراضه، ربما استدان من أصدقائه، ربما قدمت أسرته كل ما تملك.

ركب الطائرة متوجهاً إلى غانا، وقلبه ينبض بالأمل والحماس، كان يتخيل نفسه يرتدي قميص النادي الجديد، يتصور ردة فعل والديه عندما يخبرهما بالخبر السعيد.

لكن عندما وصل إلى غانا، لم يجد ناديا ولا عقدا ولا مستقبلا، وجد عصابة مسلحة كانت تنتظره.

رعب

تم اختطاف شيخ توريه فور وصوله، العصابة التي أوهمته بالاحتراف كانت تعمل في مجال آخر تماما، الاتجار بالبشر وطلب الفدية

اتصلوا بأسرته في يمبول، طلبوا مالا لإطلاق سراحه، والدته، المرأة الفقيرة التي تحلم مثل ابنها بحياة أفضل، حاولت جمع المال بكل الطرق الممكنة، باعت كل ما تملك، استدانت من الجيران، توسلت لكل من تعرفه.

لكن كيف تجمع أسرة فقيرة مبلغاً ضخماً تطلبه عصابة محترفة في الابتزاز؟ كيف تحول أم بسيطة من حي فقير أحلام ابنها إلى نقود في أيدي خاطفين؟

العصابة لم تنتظر طويلاً، عندما فشلت الأسرة في دفع الفدية، قررت تنفيذ تهديدها.

صورة لن تمحى من الذاكرة

ما حدث بعد ذلك يتجاوز الوحشية، لم تكتف العصابة بقتل شيخ توريه، أرادت أن تعذب أسرته أيضا، فأرسلوا صورا لجثته إلى والدته.

صور تظهر جسد ابنها بعد التعذيب، مع جروح وكدمات في كل مكان.

أحد أصدقاء شيخ المقربين، الذي شاهد الصور، قال بصوت مرتجف: “أندم على مشاهدة الصور، إنها لا تُحتمل، لديه جروح عميقة في كل مكان”.

تخيل أما تفتح هاتفها لترى صورة جثة ابنها، الابن الذي ودعته قبل أيام وهو يحلم بالاحتراف، الابن الذي كان يعدها بحياة أفضل.

تخيل الألم الذي لا يوصف، الصدمة التي تمزق القلب، الصرخة التي لا تخرج من الحلق لأن الحزن أكبر من الكلمات.

رموا جثته في الشارع، كأنها قمامة، شيخ توريه، الشاب الذي كان يحلم قبل أيام بالنجومية، أصبح جثة مجهولة في شارع غريب في بلد بعيد عن وطنه.

جثمان في المشرحة وأسرة محطمة

اليوم، يرقد جسد شيخ توريه في مشرحة Ebenezer في منطقة Tafo بغانا، في انتظار إتمام التحقيقات لإعادته إلى أسرته في السنغال

أسرته تنتظر، والدته التي رأت صور جثته تنتظر، والده الذي حلم برؤية ابنه يرتدي قميص منتخب السنغال ينتظر، زملاؤه في أكاديمية Esprit Foot ينتظرون، حي يمبول بأكمله ينتظر عودة ابنه، ولو كجثمان.

وزارة الخارجية السنغالية أعلنت أنها تعمل مع السلطات الغانية للتحقيق في القضية وإعادة الجثمان، لكن التحقيقات والإجراءات البيروقراطية لن تعيد شيخ للحياة، ولن تمسح الصور من ذاكرة والدته، ولن تملأ الفراغ الذي تركه في قلوب من أحبوه.

ليس الضحية الوحيدة

القصة لا تنتهي عند شيخ توريه، هناك شابان سنغاليان آخران، اسمهما بامبا ومومو، سافرا معه في نفس الرحلة، وقعا في نفس الفخ، واختطفتهما نفس العصابة.

حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، ما زال بامبا ومومو مختطفين في أيدي العصابة، عائلتاهما تعيشان نفس الكابوس الذي عاشته عائلة شيخ.

الخوف، الترقب، محاولات جمع المال، والصلاة بألا يلقيا نفس مصير صديقهما.

كم من شاب أفريقي آخر يمر بنفس التجربة في هذه اللحظة؟ كم من أسرة تنتظر اتصالاً من ابنها الذي سافر للاحتراف ولم يعد؟ كم من حلم تحول إلى كابوس في ظلمة بلد غريب؟

ظاهرة

قصة شيخ توريه ليست استثناءً، بل هي جزء من ظاهرة واسعة ومنظمة لاستغلال أحلام الشباب الأفارقة في الاحتراف الكروي.

الأرقام مرعبة، ما بين 6 آلاف إلى 15 ألف شاب أفريقي يسافرون سنويا إلى أوروبا أملاً في الاحتراف.

منظمة Culture Foot Solidaire الفرنسية تقدر أن 15 ألف مراهق ينتقلون من غرب أفريقيا كل عام، الكثير منهم بطرق غير قانونية

ألفا فال من الاتحاد السنغالي لكرة القدم أكد أن “مئات ومئات” من الشباب السنغاليين وقعوا ضحايا لتجار البشر في المجال الكروي، مضيفاً أن الدولة لا تحتفظ بسجلات رسمية لهذه الحالات

العصابات تعمل بطريقة منظمة ومحترفة، يتظاهرون بأنهم وكلاء معتمدون، يحملون أوراقا مزيفة، صورا لشباب أفارقة “نجحوا” في أوروبا، وعقودا تبدو حقيقية.

يستغلون فقر الأسر ويأسها، يستغلون أحلام الشباب وطموحهم، يستغلون ضعف الرقابة وغياب القوانين الصارمة.

في عام 2015، كشف اتحاد اللاعبين العالمي FIFPro عن قضية 23 لاعبا قاصرا من غرب أفريقيا تم الاتجار بهم إلى نادي Champasak United في لاوس، بعضهم لا يتجاوز 14 عاما.

اللاعبون الذين عادوا وصفوا تجربتهم بـ”العمل العبودي”، مع سوء التغذية وانعدام الرعاية الطبية رغم إصابتهم بالملاريا والتيفود.

صرخة تحذير

بعد مقتل شيخ توريه، أصدرت وزارة الخارجية السنغالية بياناً عبّرت فيه عن “تعازيها العميقة للأسرة المفجوعة”، وأكدت أن التحقيق يُجرى “بأقصى درجات الجدية والإلحاح”

لكن الأهم من التعازي كان التحذير: “نحذر الأندية والمدربين وأولياء الأمور من العروض غير الموثقة للتجارب أو الانتقالات للخارج”.

البيان أضاف: “يجب على الرياضيين الشباب في السنغال دائماً استخدام القنوات الرسمية والحصول على إرشادات من السلطات الرياضية قبل السفر”.

أكاديمية Esprit Foot، التي تدرب فيها شيخ، أصدرت بيانا تعبر فيه عن حزنها العميق، وتطالب بتعاون قوي بين السلطات السنغالية والغانية لكشف ملابسات القضية والقبض على الجناة.

لكن البيانات لا تكفي، فالشاب الجائع، الذي يعيش في حي فقير ويحلم بإنقاذ أسرته، سيظل عرضة للانخداع بأي وعد ذهبي، مهما كانت التحذيرات.

حلم لم يتحقق وقلب لن ينبض

في مكان ما في مشرحة بغانا، يرقد جسد شيخ توريه باردا، القفازات التي كان يحلم بارتدائها في الملاعب الكبرى لن يرتديها أبدا، الأهداف التي كان يحلم بصدها لن يصدها أبدا، الابتسامة التي كان يحلم برسمها على وجه والديه عندما يخبرهما بنجاحه لن تُرسم أبدا.

في حي يمبول بالسنغال، هناك أم محطمة تنتظر عودة جثمان ابنها، هناك أب يحاول أن يفهم كيف تحول حلم ابنه البسيط إلى كابوس مرعب، هناك زملاء يتذكرون الشاب الهادئ الذي كان يحب كرة القدم أكثر من أي شيء آخر.

شيخ توريه كان عمره 18 عاماً فقط، كانت حياته كلها أمامه، كان يستحق فرصة حقيقية، كان يستحق أن يحقق حلمه، كان يستحق أن يعيش.

لكن العالم لم يمنحه هذه الفرصة، منحه بدلاً من ذلك عصابة من المجرمين، فخاً قاتلاً، ونهاية مأساوية في شارع غريب بعيداً عن وطنه.

التصنيفات: اخبار عالمية,عاجل